arablog.org

الثقافة والامم

عن الثّقافة وأهميّتها الاستراتيجيّة في تحديد معالم الأمّة..

مهما اختلفت المعايير المستخدمة في تصنيف الثّقافات البشريّة من حيث الدّرجة التي تتبوّؤها، أو من حيث وضعها في إحدى خانتين ( ثقافة متقدّمة، ثقافة متخلّفة ) – مع التّحفّظ على هذا التّصنيف – فإنّ الثّقافة تبقى إحدى أهمّ الأسباب التي تحفظ لأمّة من الأمم تماسكها وتحصّنها من عوامل التّشرذم والتّفتّت والانحلال.
بالثّقافة تحافظ المجتمعات على تماسكها، وبها يتحوّل الكائن البشريّ من كائن فرد إلى كائن اجتماعيّ، فأحد أهمّ سمات الكائن البشريّ كونه اجتماعيّا أي أنّه مندمج في ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، وهذا ما يعنيه ( هوين كاوتري ) حين يقول:
” نحن لا ندرك حقّا فرادة الدّور الذي تلعبه الثّقافة في حياة شعب من الشّعوب إلاّ عندما تتعرّض هذه الثّقافة وآليّاتها غير المنظورة إلى الانحطاط، إمّا بفعل غزو التّكنولوجيا وإمّا نتيجة انتهاج سياسة مقصودة من الاعتداء الثّقافيّ من أجانب أو على أيدي الوطنيّين أنفسهم باسم العلم أو باسم ما يسمّى تقدّما…
وتعاني شعوب كثيرة تحرّرت في القرن العشرين، من جبروت الهيمنة الاستعماريّة، من مشكلة تتعلّق بوجودها ذاته تتجلّى في الهويّة الثّقافة.
فهي في سعيها إلى الحركة والانفتاح على الحضارة المعاصرة تجد نفسها وهي في حال من الفراغ الثّقافيّ بسبب من انبهارها بعظمة التّقدّم العلميّ والتّقنيّ الذي بلغته الحضارة المعاصرة. فتشعر بأنّها تكاد تفقد هويّتها، خاصّة وأنّ مراكز التّفوّق التّقنيّ والعلميّ المعاصرة تمعن في تفسير أسباب تقدّمها فتحيلها إلى عقلانيّة من سماتها سلطان العقل والعلم دون ” الإحاطة الشّاملة بتعدّد العقلانيّات، إذ لم يعد هناك عقلانيّة علميّة واحدة “. وتشتدّ هذه المعاناة حين ينحصر النّظر إلى الثّقافة من خلال عنصري العلم والتّكنولوجيا فحسب، إذ أنّ الثّقافة من منظور تاريخيّ شامل تبدو أكثر شموليّة وعالميّة.
وتجد أمم الأرض كافّة نفسها في هذا العصر أمام المشروع الثّقافيّ الغربيّ بكلّ جبروته وسطوته وآليّاته مصدرا من مصادر الانبهار، وكثيرة هي الشّعوب التي تناست خصوصيّاتها وتنازلت عن كثير من مقوّمات هويّتها فخسرت نفسها ولكنّها لم تجد ضالّتها في المشروع المذكور كونه لا يتعامل مع الآخرين إلاّ من باب الاستعلاء والإمعان في النّهب الذي يطال كلّ شيء بما في ذلك المقوّمات الثّقافيّة لشعوب الأرض خارج دائرته الخاصّة. وهو في أساليبه تلك يعي تماما المدى الذي تمثّله الذّاتيّة الثّقافيّة للشّعوب التي استعمرها ونهب ثرواتها، من معوّقات لاستمرار مشروعه ونموّه. وقد تنوّعت وسائل العدوان على ثقافات العالم الذي ما يزال يسمّى بالعالم الثّالث بوسائل شتّى، من الحملات التّبشيريّة التي تستّرت وراء الدّعوات الدّينيّة إلى إشاعة نظم قيميّة تتعارض مع المبادئ الأخلاقيّة لهذا العالم. وقد تعاظم السّطو الثّقافيّ بفضل التّقدّم الهائل لأصحاب ا مشروع الغربيّ من حيث امتلاكهم للتّكنولوجيا المتطوّرة وعلى الأخصّ وسائل الاتّصال. فمن خلال وسائل الإعلام المختلفة يصدّر المشروع الغربيّ ثقافته وقيمه ونظام حياته في قالب جذّاب برّاق دونما حذر أو حساب لأماني الشّعوب وآمالها ومرتكزاتها الثّقافيّة. ولا يكتفي بذلك فحسب ولكنّه حين يعوزه الأمر لا يتورّع أبدا عن استخدام الأسلحة التّدميريّة متخلّيا عن لبوسه الظّاهريّ الذي يدّعي عبره الحرص على حقوق الإنسان وعلى القيم الدّيمقراطيّة.
ولعلّ بروز ( النّظام العالميّ الجديد ) الذي يخضع – شئنا ذلك أم أبينا – إلى سلطانه المؤسّسات الدّوليّة ويسوق بعصاه من يشاء حيث يشاء أو أنّه يتصرّف في كثير من الأحيان وفق هذا المبدأ يبرز إلى حدّ كبير ما ينطوي عليه المشروع الثّقافيّ الغربيّ من عنجهيّة ونزعة عدوانيّة على مصالح الشّعوب المغلوبة على أمرها، خاصّة تلك التي تنتمي للجنوب.
ولن تجدي سياسة غمر الرّأس بالرّمال أحدا. التّخلّف الاقتصاديّ والاجتماعيّ لن يفرّخ إلاّ مزيدا من التّخلّف والتّبعيّة. والخروج من شرنقة التّخلّف والتّبعيّة لا يكون ممكنا إلاّ عبر حالة من الوعي بالأزمة المستحكمة والوعي بالدّور الحيويّ للثّقافة التي تحفظ للأمّة وحدة شخصيّتها وتمنع عنها سيل الغزو الثّقافيّ الذي يستهدف في النّهاية وجودها. ولن يجدي التّعرّي من التّراث والانغماس في حضارة العصر فتيلا. لأنّه يستحيل على الذّات الخروج من جلدها مهما تراءى أنّ ذلك ممكن.

من دراسة: الخصوصيّة في الثّقافة القوميّة العربيّة لإسماعيل الملحم
بحث وإعداد: رفيقكم أنيس الهمّامي

 

 

about author

aymenmeherzi
aymenmeherzi

ايمن المحرزي صحفي قيرواني تونسي

LEAVE A REPLY

Your email address will not be published. Required fields are marked *