arablog.org

تونس من يحق له ان يتولى رتبة “الشيخ” في منظومة التصوف ؟

من يحق له ان يتولى رتبة “الشيخ” في منظومة التصوف ؟

 

 

 

إنّ الأئَمّةَ الصّوفيّةَ دقّقُوا الاهتمَامَ فِي اصطلاحَاتِ الطّريقِِ وضَبْطِ دلالاتَهَا وسَارُوا وفقَ هَذا المَنْحَى بناءً للمفاهيم وتشييدا للضّوابِطِ و الشّرُوطِ دفعا لكلّ ايهَامِ أو تداخلِ ، وسار الشّيخُ محمّد المدني في آثارِهِم على هذا المنهج . ودَأَبْتُ على سَيْرِه منذ نِصْف قَرْن تثبيتا لبُنيان الطّريقةِ المدنيّة وَذْودًا عليها من إسْقاطِها في مُسْتََنقَعَاتِ الأبَاطِيل ورفعًا لها في عَلْيَاءِ العِلمِ والشَّرْعِ الحَنِيفِ لأنّها طريقةٌ تَنْهل من رُكنِ الإحسَان الّذي هو عِلْمٌ ربَّانِيّ لا يُدْرَك إلاّ بِالتَّرْبية الرُّوحِيّة الموصلة إلى المَعرفةِ اليَقينِيّة بالله تعالى ، والتَّصوّفُ عِلمٌ لا يُنَالُ إلاّ على يَدِ شَيْخ سَالِكٍ مُسَلِّكٍ متخلّقِِ بأخلاقِ اللهِ مُتَحَلٍ بِسُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصُحْبَتُهُ هي السَّبِيل العَمَليّ لزِيادة الإيمانِ وإيقاظِ القلوبِ لقوله تعالى “وَاتَّبَعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ” وقال الحَوَارِيّون لسَيّدِنا عيسى عليه السّلامُ يا رُوحَ الله من نُجالِس ؟ قال جَالسُوا مَنْ تُذَكّركُم بالله رُؤيَتُه ، ومن يَزِيدُكم في عِلْمكُم كَلامُه ، ومَنْ يُرغّبُكم في الآخرة عَملُه.وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الرَّجُل على دِينِ خَليلِه فَلْيَنْظُرأحَدُكم مَنْ يُخَالِل )وإلى هذا أشَار الفَخْرُ الرَّازِي في تفسير قوله تعالى “صِرَاطِ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم” ، قائلا وهذا يَدلُّ على أَنْ لا سبيل إلى وُصول المُريد إلى مَقَاماتِ الهدايةِ إلاّ اذا اقُتَـــدَى بِشيخ يُرِيه سَوَاءَ السَّبِيل ،

يقول الإمَامُ عَبْد الواحد بن عاشر

يَصْحَب شَيْخًا عَاِرفَ المَسَالِكِ *** يَقِـــيهِ فِـــي طَريقـِــهِ المَهَــــالك

 

فَحقيقةُ التَّصَدُّرِ للتّربيةِ المُوصلَةِ لله هي وِرَاثَة المَقام المُحمّدِي ولا يَتَولّى التَّبْليغَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ مَنْ وافَقَ سُلوكهُ كتابَ الله وسنّة نبيّهِ الكريمِ ولهذَا لَمْ يُرسلْ رسول الله عليه الصّلاةُ والسّلامُ إلى اليَمَنِ إلاّ سيّدنا مُعَاذًا لِعلمِهِ وفِقْهِهِ ويَقُول (أَعْلَم أُمّتِي بالحَلال والحرام مُعَاذ بن جَبَل) ،

 

قال الجُنَيد : -عِلمُنا هذا مُقيّدٌ بالكتابِ والسُنّة فَمَنْ لم يَسْمع الحَدِيثَ ويَجَالِس الفُقَهاء ويأخُذ أَدَبَهُ عَنِ المُتَأدّبِين أَفْسَد مَنِ اتَّبَعَه – ولِعُلُوِّ رُتْبة المَشْيَخَة اشْتَرَط العُلماءُ المُحقِّقون أَربعَةَ شروط فِيمَن يَتَصدَّرُ لِلإرْشاد .

 

– الأوّل : الرُّسوخُ في العُلوم الشَّرْعيّة مِنَ العقيدَة والفِقهِ والقُرآن والحديثِ والتَّضَلُّعِ في أُصوله وفُروعِه ليَتَسنَّى له الإجابة على أسئِلةِ المُريدِين على اختلافِ شَرائِحِهم .

 

– الثّاني : التَّمكُّنُ مِنْ عِلم الحَقيقَة الصَّافِيةِ فلا يَدُلُّ على الله إلاّ مَنْ تَأَنّسَ بالله في سِرِّه وعَلانِيّتِه وفَرَغ من تَأْديبِ نَفْسه، وإلى هذا الشّـــــــرط أشار صَاحبُ المَيّارة الكُبرى نَقلا عن ابن عَبَّاد حيث قال :”لا بُدَّ للمُريد في هذا الطّريقِ من صُحبةِ شيخٍ محقّقٍ مرشدٍ قد فرغَ من تأديب نفسهِ وتخلّصَ من هواهُ فلــــــيسلّم نفسهُ إليه ولْيلتَزم طاعَتَهُ والانْقيَادَ إليه في كلّ ما يشيرُ به عليه مِنْ غَيرِ ارْتيابٍ ولا تأويلٍ ولا تردّدٍ .”

 

– الثّّالث :الخِبرةُ بطرائقِ تَزْكية النُّفوسِ وتَنظيفِها من أَدْرانِها وتَهذِيبِها في سُلوكها ، فالتّصوّفُ علمٌ ذوقيٌّ لا تُدركُ ثمرتُهُ إلاّ بالتَّرقِّي في مَدارِج السّالكِينَ ، قال ابن عَجِيبَة : أَنْ يَكون الشّيخُ مُتمَكّنا ماهرا بأحوالِ القُلوبِ عارفا بِعِلَلِها و وسَائلِ عِلاجِها ذا بصيرَةٍ يرْوي ضَمَأَ مُريدِيه بالإجَاباتِ الشّافِية على أسْئِلتِهم ويُبَيّن لهم حَقيقةَ المَقْصدِ فَغايةُ التّربيةِ ترقّيةُ المريدِ كما قال الشّيخ محمّد المدني “المُرشدون لهم تأثير غريبٌ في بَواطنِِ مُريـــدِيهــم يَرفَعُــونهم مِنْ حَضِيـــض المَعصــيةِ إلى مستَـــوَى الطّاعَـــةِ إلى الرّفِــيـقِ الأعْـــلَى إلى الحُـــــضُور مـــع المعـــبـود جَــــلَّ جـَـــلالـــهُ .”

 

– الرّابع : تَوفُّرُ الإجَازَة اللّفظِيّة الصّرِيحةِ لضمَانِ الأهْليَّة الفِعليّةِ للإرْشادِ والتّذْكيرِ فلا يتَصدّرُ لرُتْبة المشيخَةِ إلاّ مَنْ صَاحَب شيخا عارفا يَأْذَنُ له في نَشرِ الطّرِيقِ إن تَوفّرَت فيه الأهْلـــــــــيّةُ العِلميّةُ والرّوحِيّة على غِرارِ ما يَفعلُهُ الحُفّاظُ وروَاةُ الحديثِ الّذينِ اعْتَبَروا حُصولَ السّنَدِ المَكْتوبِ شَرطًا لنَقْلِ السنّةِ المُطهّرةِ حتّى قال ابن المُبارَك ..”الإسْنَادُ مِنَ الدِّينِ وَلوْلا الإسْنادُ لَقَالَ مَنْ شاءَ مَا شَاء ”

 

 

وهل التَّصوُفُ إلاّ السُنّة النّبويّة وخُلاصتُها العَطـــــرةِ فلا

dبلّغها إلاّ العلماءُ العاملونَ، ولذلكَ وجبَ الحَذرُ مِنْ أولئِكَ الّذيــن يَدّعونَ رتْبَةَ المَشيخَة دون حُصولِ شُروطِها ، فَكَمَا لا يَجُوز لِمَن لا يَحمِل شهادَةَ الطبِّ أَنْ يفتَحَ عِيادةً لمدَاواةِ المرضَى لا يَجوزُ أن يَدّعِي الإرشادَ غـــير مَأذُونٍ له مِنْ قِبَلِ مُرشِد مَأذونٍ مُجَازٍ مُؤهّلٍ يَتّصلُ سَندُه بالتّسَلْسُلِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الشّيْخ عبد القادر عِيسَى : وَلَمَّا كان مَشرَبُ القوم أبْلغُ المَشاربِ في التّحْقيقِ، وأَسْنَى المَعارِجِ في التّدقيق ،تَعيّنَ على كُلِّ مُنتَسبٍ أن يُحقّقَ مُسْتَنَدهُ على الوَجهِ الأحَقِّ لأنّ الحَقائقَ لا تُؤخَذُ مِنْ كُلّ ذي دَعْوَى إلاّ بعدَ تَحقّقِ صِحّةِ دَعواهُ على الوَجهِ الأكْملِ، لكن قد يَسأَل سَائلٌ كَيفَ الاهْتدَاءُ إليهِ ؟ أو كيف يُعرفُ أَنَّ هَذا هو الشّيخ المُرَبّي ؟ يقول ابن سِيرِين (إنَّ هذَا العِلم دِينٌ فَانظرُوا عَمّنْ تَأخُذونَ دِينَكم) رواه مسلم، وقال بعض العَارفين العلم رُوحٌ تُنفَخُ ، لا مَسائِلَ تُنسَخُ فَلْيــنتبه المُتعلّمُون عَـــمّنْ يَأخــذُون و لِينْتبه العَالمُون لِمنْ يعْطون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خَصلتَان ليسَ فَوقَهُما مِنَ البِرِّ شَيءٌ ، الإيمَانُ بالله والنّفْعُ لِعبَاد الله ، وخَصلتَان ليسَ فَوقهُما مِن الشَرّ شَيءٌ الشِّركُ بالله والضُرُّ لعبَادِ الله ). قال الشّيخ عَلِي الخَواص :

 

لا تَـسْلُكَـنَّ طَرِيقًا لَسْتَ تَعْرِفُهَا *** بـِــلاَ دَلِيلٍ فَتَهْوى فِي مَهَاوِيهَا

 

ولا يُسلّمُ المريدُ سيرَهُ إلى اللهِ لكلِّ من هبَّ ودبّ َ، ولكن للّذي إذا جَالسهُ شَعرَ بِنفحَةٍ ايمانيّةٍ ، ونشْوةٍ روحيّةٍ لا يَتكلّمُ إلاّ لله ولا يَنطقُ إلاّ بِخيرٍ ، ولا يَتحدَّثُ إلاّ بِموعِظَةٍ أو نصيحَةٍ دينيّةٍ تَستفِِيدُ مِنْ صحْبته كما تَستفيدُ مِنْ كَلامهِ ، كذلك تُلاحظُ في مُريدِيه صُوَرَ الإيمَانِ والإخْلاص والتَّقوَى والتَّواضُع والصّدْقِ والإيثَارِ ، وهكذا يُعـــــرَفُ الطّبيبُ الماهرُ بنتَائجِ جُهودِه حيث تَرى المَرضى الّذِين شُفُوا على يَديْه وتَخرّجُوا مِنْ مِصحَّتهِ بِأوفَرِ قُوّةٍ وأتَمِّ عَافيةٍ . كَما أنّ كَثرةَ المُريدِين وقِلّتَهم لَيسَت مِقيَاسًا لمَهَارَة الشّيخِ وإنّمَا العِبرةُ بصَلاحِ المُريدِين وإفَادتِهِم بمَعرِفة الشّريعَةِ والحَقيقَة وتَخليصِهم من العُيوبِ والأمْراضِ واسْتقامَتهِم على شَرعِ الله، يقول الشّاعر :

 

لا تَصْحَبْ أَخَا الجَـهْل إيـَّــاكَ وإيَّاه ُ ** فَكَمْ مِنْ جَــــاهِـــلٍ أَرْدَى حَلِــيمًا حِينَ آخَاه

 

يُقاسُ المَرءُ بِالمَــرءِ إذَا هُو مَا شَاه ** وَللشّيءِ مِنَ الـشَّيءِ مِقـْـياسٌ وَأشْــبَاهُ

 

وَللقَلْبِ عَلىَ القَلبِ دَلِيلٌ حِيـk يَلقَاهُ ** وفِي العَيْنِ غِنًى لِلْعَيـــنِ أنْ تَنْـِطقَ أفْوَاهُ

 

ونُورِدُ فَقرَةً ممَّا كَتبَهُ الأستَاذُ أحمد العلاوي في إجَازَتِهِ الكِتابِيّةَللشّيخ محمّد المدني كَأنمُــوذَجٍ مِنَ الإجَازَاتِ يَقولُ”فَهذِه رُتبَةُ الإرْشَادِ تَطلبُكَ بِكلِّ الإجتَهادِ ، فَارْشدْ مَنِ اسْتَرشدَك وَصِلْ مَنْ قَطعَك فَإنَّا أجَزنَاكَ فِي الطَّريقَة الشَّاذليّة الإجَازةَ اللّفْظيّةَ تعْضيدًا لمَا تَقدّمَ لكَ مِنَ الإجَازةِ القَلبيّةِ

 

، هذا ومِمَّا تَجدُرُ الإشَارةُ إليهِ وأَنَّ فَيصَلَ التَّفرقَةِ بَينَ الشّيْخِ المُرُبِّي والدَّعِيّ هو وُجودُ الإجِازَة الفِعْليّة، وأمَّا مَا عَدَاهَا مِنْ دَعَاوي رُؤيَة الشَّيخِ فِي الـحُلم وإجَازَتِه على طَريق الرُؤية في المَنامِ، أو تَلقِّّي الإذْنَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقظةً بِنَشرِ طــريقِ التّصَـوّفِ أو اسْتعْمالِ الجُنُونِ لجَلبِ المُريدِين لا يَصِحُّ شَرعًا ولا تَصوّفًا بل هو مِنْ ضُروبِ الدّجَلِ واسْتِبْلاهِ الأتبَاعِ وهو مِنَ الأخْطارِ المُحْدِقةِ بالتّصَوّفِ وأهَلهِ.

وقد أوْجزَ الشّيخ محمّد المدني هَذه الشّرُوط بقوله : لا بدَّ أن يَكونَ الشّيخُ عَالمًا بمَا يَلزَمُه شَرعًا مِنْ تَوحِيدٍ وفقهٍ وأمّا مَعرفَة العِلمِ اللَدُنّي فشَرطُ صِحّةٍ فِيمَنْ يَدّعِي مَشيخَةَ الطّرِيق وإلى ذَلك يُرشدُ قَولَ المُرشدِ المُعينِ المُتقَدّمِ عَارفَ المَسالكِ ، وأمَّا غَيرُ العَارفِ فليسَ لهُ طرِيقٌ إلى سَبيلِ الرّشَاد، إذْ ربّما أرْشدَ إلى فَسَادٍ يَظنُّهُ سَدادًا أو طَلاحٍ يَظنّهُ صَلاحًا فَمَثل هَذا مَضرّتُه أقْربُ مِنْ مَنفَعَتهِ ، فَالوَاجبُ عليه هو الالتِجاءُ لِمَنْ يَأخُذُ بِيدِه ويُرِيهِ عُيوبَ نَفسِه .

 

وَإنْ يَـكُ الشَّـْيخُ بِغَـــْيِر مَا ذُكِر *** مِـنَ الأوْصَافِ فَاطْرَحْهُ وَلاَ تَغْتَرْ

 

وَزُبدَةُ القَول أنّ الـمَشـيخَة هي خِلافَةٌُ لرســول الله صلى الله عليه وسلم فِي تَزكِيةِ الأرْواحِ ولاَ يَتقدَّمُ لهَذا المَقامِ الأعْلَى إلاّ مَنْ أَهَّلَهُ الله تَأهِيلاً ، وجَعلَهُ

,لطُرُقِ الخَيرِ دَليلاً

 

الشيخ  محمد المنور المدني

شيخ الطريقة المدنية

مقتطف من خطبة المولد النبوي الشريف

ايمن المحرزي 1499596_360687920770850_2568093359769425526_n

about author

aymenmeherzi
aymenmeherzi

ايمن المحرزي صحفي قيرواني تونسي

LEAVE A REPLY

Your email address will not be published. Required fields are marked *